الأربعاء، 11 فبراير 2009

شخبط شخابيط


مرت ايام دراستنا بحلوها ومرها، وان كان اكتشافنا انها كانت اسعد ايامنا فى هذه الدنيا قد تأخر كثيرا ، تأخر حتى انهيناها وبدأنا نعمل فعرفنا كم كانت حلم جميل ، حتى فى اصعب اوقاتها حينما كنا نصل الليل بالنهار او عندما كنا نغرق فى بحار القلق انتظارا لنتيجة شهادة او حتى عام دراسى عادى ( الجزء الاخير دا مبالغة منى حيث انى لم اغرق ابدا فى بحار القلق بسبب النتيجة قد اقلق بعض الوقت ولكن تلهينى الحياة عن تذكر اى نتيجة ما علينا ) .


لكن من منكم يتذكر اصعب مادة درسها فى حياته ؟ ، تلك المادة التى تدخل الى دروسها سواء فى المدرسة او الكلية ، فتجد نفسك تسبح فى بحور الكلمات والمصطلحات والحركات تصطدم بتجربة او نظرية للعالم الفلانى او العلانى وحينما تفهمها او تكاد تدرك انها نظرية مضى عليها سنوات كثيرة وانها اصبحت مجرد قانون صغير لنظريات اكبر فتشعر انك دخلت بحر الظلمات السبع ( على فكرة هذا الشعور كان ينتابنى فى كثير من المواد وليس مادة واحدة )


لن ازيدكم من تلك الاحاسيس والمشاعر لكنى ساحكى لكم تجربتى مع مادة devices تلك المادة التى كادت ان تبكينى فى امتحانها النهائى، مادة الديفايسز تتحدث باختصار عن النظريات الخاصة باداء semiconductors تلك المواد التى قلبت عالمنا تماما وحولته الى عالم الكترونى ، وكيفية تصميمها حسب العمل التى ستقوم به.


اما الدكتور مدرس المادة فكان رجل انيق ومهذب ( ابن ناس اوى ) كما انه حاصل على الدكتوراه حديثا من فرنسا ( يعنى لسه طاظة وبشوكه )ويحمل امال كبيرة حول مادة الديفايسز ومساعدته كانت معيدة من المعيدات الملتزمات المحبات للعلم بصفة عامة ولعلوم الالكترونيكس المعقدة بصفة خاصة لدرجة ان تصرفاتها اليومية وتفاعلتها مع الطلبة تشبه تماما فى ادائها منحنيات نقاط الخضوع الخاصة بالمواد شبه الموصلة او انا كان ييخيل الى هذا ، والكتاب كان بلون بنفسجى الغامق يوحى لك بالغموض بعض الاحيان والخوف احيانا اخرى ، تلك ادوات المادة بصفة عامة وبدون تفاصيل كثيرة لكن فى بداية العام كانت مادة فى المجمل توحى بالتفائل بالرغم من ان الكتاب كان ملئ بالمنحنيات المعقدة والدوال الممتدة وهذا فى عرفى الخاص يدعوا الى التشاؤم كمان انه يدعونى للاستعداد للسباحة فى عالم الدوال والتكاملات والتفاضلات اللانهائية الا ان الدكتور والمعيدة المبتسمة دائما كانا يحولا هذا التشائم الى تفائل


من عادتى فى ذلك الوقت حضور اول محاضرة لكل مادة لتحديد مصيرها من حيث وضعها فى جدول الحضور الخاص بى او الاكتفاء بحضور السكاشين مع المعيد فقط او حذفها نهائيا من الجداول اعتمادا على الكورسات او اوراق الكورسات بمعنى ادق


الساعة الثامنة والنصف الجميع يندفع الى القاعة الخاصة بالمحاضرة اجلس فى البنش الاخير ، الدكتور يمر من جانبنا ورائحة العطر الفرنسى تزيدنا اعجابا به واشفاقا عليه من جموع طلبة كهرباء محترفى المذاكرة و الدح ، الهدوء يسود القاعة تماما ماعدا اصوات بعض اقلام الطلبة تعلن عن استعدادهم المذهل لتلقى العلم والغرف ( اسم الفعل من يغرف ) من بحوره


يبدأ الدكتور فى الحديث عن علم اشباه الموصلات ودورها الكبير فى التقدم العلمى المذهل وكيف انها احدثت فارق كبير جدا ، تلك المقدمة التى رغب منها الدكتور اثارة حمية الطلبة ولفت انتباههم للمادة ( وهم اصلا مثارين لكل ماهو كهربى محبين لدراسته والحصول على الجيد جدا فيه) كلام هادئ يدل على شخصية واعية متمكنة من علمها ، ثم يستدير الدكتور ليرسم بعض المنحنيات ويبدا فى الحديث عن التيار الابتدائى والجهد ال..... كلام كثير متشابك يخرج من فم الدكتور كدخان السيجارة لا يلبث الا ان يتلاشى عند اول صف للطلبة , منحنيات ودوال تتراكم على السبورة بطريقة عبرت عنها نانسى عجرم فى ايامنا الحالية بطريقة فلسفية رائعة حينما قالت شخبط شخابيط رسم على الحيط ، انظر حولى لعلى اجد الطمانينة فى عيون الزملاء قد اكون فقدت جزء مهم ترتب عنه تلك الحالة من الضياع المؤقت اجد الوجوم يحيط بالقاعة بعض النحنحة من عصابة الحجاب الاسود كما كن يلقبن(وهم مجموعة من الامواس فى الدراسة المتخذة شكل انسات محجبات بطرح سوداء يتحركن دائما وابدا ككتلة واحدة من والى القاعات والمعامل لدرجة تجعلك تشعر انهم لابد بعد انتهاء الدراسة سيعملن مع بعض فى نفس المكان وقد يتزوجن نفس الرجل بالرغم من ان عددهن يزيد عن العشرة امواس، بل والاغرب انك لا يمكن ان تجد واحدة منهن تمشى وحيدة او بصحبة اخرى من خارج العصابة ، اما قمة العجب انهن كان يتسللن الى التواليت بين المحاضرات بنفس التشكيل وكأن نداء الطبيعة يابى الا ان يصيح فيهم مرة واحدة فى نفس الوقت ) علامات التوهان والاندهاش بل والوخوف من المجهول تبدوا فى عيونهن ، بينما الثانية على الدفعة فى الطرف الاخر من القاعة تكتب - وهى تتمتم بكلمات اقسم انها لو اوضحتها ستحاسب على جريمة السب العلنى- باقلام ملونة ( اطمئن بداخلى فانا دائما اصور المحاضرات منها لانى لا اجيد الكتابة واذا كتبت لا افهم ما كتبته نظرا لانى خطى لا يقراء اساسا ) انتقل الى بعض الاصدقاء فاجد احد فلاسفة الدفعة الملقب بلقب لاتيس ( وهى وحدة البناء فى مادة من المواد الاقل صعوبة من الدفايسز ) يضحك بطريقة هستيرية ثم ينظر حوله لعله يراقب الجميع مثلى .

الدكتور منطلق فى الشرح بلا اى انقطاع السبورة ممتلئة بالمنحنيات لحالات كثيرة وبعض المنحنيات تمردت على السبورة فخرجت عن الاطار الى الحائط لتزيد منظر السبورة غموضا وبشاعة ، ثم يستدير الدكتور اول مرة ليواجه الطلبة الصامتين تماما الا من بعض اصوات الطلبة المنهارين من متوسطى المستوى او ضحكات من الطلبة امثالى مجهولى المستوى ، يعلن الدكتور ان اول فصل انتهى من الكتاب وان علينا قرائته والاستعداد لاول السكاشن مع الباشمهندسة وانه شخصيا سيحضر السكاشن ليراقب تقدم الطبة فى الجزء العملى ( جزء عملى امال كل اللى على السبورة دا كان ايه نظرى دا كان كله دوال ورياضة عايزلها عمل شهرين لتفسيرها فى السكاشن )


يخرج الدكتور معلنا عن انتهاء المحاضرة الاولى ، ولاول مرة اجد معظم الدفعة جالسين فى اماكنهم بعد المحاضرة بلا اية حركة مجرد همس ونظرات وكأن كل واحد منا يريد ان يتاكد اننا كلنا لم نحصل اى شئ ( وفعلا كنا كلنا فى الهوا سوا لم نفهم شئ )


تمر الايام ويزداد الموقف غموضا ولم تشفع محاولات المعيدة فى فك طلاسم المادة بل زادتها تعقيدا بتطبيقاتها العملية ومسائلها المعقدة ، بينما انا اواظب على حضور المحاضرات ( نسبة حضورى 100%) لا لشئ الا لمتابعة الزملاء وتعبيراتهم او متابعة الدكتور وتعجبه من عدم فهمنا بالرغم من السهولة المطلقة ( اه والله بيقول المطلقة ) للمادة ، تزداد الاعتراضات فى عيون الدفعة وتتحول الى همهمات وبعض الاوقات كلمات تخرج عن عمد تعلن عن عدم فهمنا اى شئ ، بينما الدكتور يعلن انه قرر ان ينهى الكتاب فى الترم الاول نظرا لسهولته وسيختار كتابا اخر للترم التانى ( بينما فى هذه الاثناء تنطلق صرخة حيانى بشهقة تدل على ان صاحبتها من حوارى الدخيلة ) وافجأ بالمصدر احدى مدعيات الكلاس فى الدفعة الاحظها تحاول التغطية على تلك الصرخة الطبيعية بحركات مفقوسة ( صحيح عايز تعرف حد شوفه فى وقت الشدة ومفيش اشد من كدة) بينما عصابة الحجاب الاسود يزداد كرهها ومقتها للدكتور كما يزداد التصاقهم ببعض اثناء محاضراته حتى تشعر بانهم تحولوا الى كتلة واحدة وان هناك شبكة اتصال على اعلى مستوى بين امخاخهم لمحاولة تفسير الطلاسم بلا فائدة ، بينما احدى الطالبات الرقيقات ( لا اعرف لماذا القت بنفسها فى كهرباء ولا حتى اعرف لماذا القيت انا نفسى بنفسى فى هذا القسم) تنساب دمعات على وجنتيها وتمسحها بمنديل بينما تلتفت حولها لتتاكد ان الجميع مشغول عنها ( لا تبكى ايتها الرقيقة فكلنا مثلك اه لو اطلعتى على حال كل من حولك لانطلقتى فى الضحك ، الغريب ان تلك الطالبة تزوجت فى هذا العام وانجبت اول اطفالها وهى فى البكالوريوس وكان ذلك شئ غريب جدا لى )


بينما شلل الضائعين من امثالى تزيد كل محاضرة فينضم الينا طلبة وطالبات فى البنشات الاخيرة منهم من يجلس واجما زائغ النظرات ومنهم من لا يضيع وقته ويجلس متحدثا الى زميلة معبرا عن مشاعره اتجاهها والتى حولتها المادة والظروف المحيطة الى كتل من اللهب ، وبنهاية المحاضرة يعلن الدكتور عن امتحان الميد تيرم بعد اسبوع وان الامتحان بطريقة صح وخطأ واختار من بين الاقواس (ناقص يقول اكمل الناقص ) الا ان التصحيح سيكون بطريقة الخطا يمحو اجابة صحيحة بمعنى انك اذا لم تكن متاكد من اجابتك لا تجاوب بل اتركها اسلم وافضل ( العبد لله لم يوعى ابدا على اجابة متاكد منها فى تلك الكلية )


صدق حدثى فقد استعد الكتور اينما استعداد للامتحان فطبع ثلاث نسخ مختلفة نسخة لكل صف ليمنع الغش ، كما استعان بكل معيدى القسم ( والله بلا مبالغة جميعهم كأن هناك فرح وكله جاى يخدم ويقوم بالواجب ) ، ومن المعروف عن دفعتنا انها تحترف الغش ( ليس غش عدم المعرفة ولكن غش الاطمئنان على صحة الاجابة وطريقة الحل ) ، الا ان هذه المرة عقدت الدفعة العزم دون اتفاق على الغش بكل الطرق والوسائل وختم وامن على هذا العقد ميكافيللى بنظريته المعروفة الغاية تبرر الوسيلة ، ولا يوجد اهم من غاية النجاح فى تلك المادة.


يبدا الامتحان ومع مرور الوقت نكتشف ان الامتحان الف مثل باء مثل جيم ( خدعة قديمة جدا مرت على فى المرحلة الاعدادية واتت اكلها لانك تنشغل بالاجابة ولا يوجد لديك وقت للتاكد من الاختلاف او التشابه ) لكن مع وجود ساعتين كاملتين اى 120 دقيقة وانت لست متاكد من اى اجابة اكيد ستجد الوقت لاكتشاف ان الف مثل باء مثل جيم وانطلق الجميع بشجاعة يحسدون عليها فى الغش ، بينما لان دائما السمعة تسبقنا فقد جلس بجانب شلتنا معيد ظريف يدعى مصيلحى وهو عشرة قديمة ويعرف قدرات الشلة فى تبادل المعلومات للاطمئنان والتاكد ، ومع اخر 15 دقيقة يزيد الهرج والمرج بصورة اول مرة اراها فى امتحانات الكلية ويعلن الدكتور عن استلامه الاوراق الان، والغريب والعجيب اننى حصلت على ثمان درجات من عشرين بينما الاول على الامتحان حصل على اثنتى عشرة درجة والاعجب ان معظم اصدقائى وهم افضل منى دراسيا بصفة عامة حصلوا على درجات تتفاوت من واحد الى خمسة درجات مما وضعنى فى مصاف الخبراء فى المادة ( اه والله مع انى اكاد لا افقه فيها شيئا) لكن اكيد لانى جاوبت على اقل عدد ممكن فكانت الخسائر محدودة


المحاضرة الاخيرة قبل امتحان التيرم كان الجميع منهك ودرجات امتحان الميد تيرم تسيطر على الجميع ، القلق الخوف من السقوط والذى يعتبره الجميع هنا شئ مريع تضفى مزيد من التوتر على جو القاعة تماما ، بينما الدكتور فى وادى اخر يحاول جاهدا انهاء اخر الفصول بالكتاب الملعون ، وعندما انتهى تماما من الكتاب كان المتبقى من المحاضرة دقائق معدودة اعلن فيها الدكتور عن استعداده للاجابة عن اى سؤال فى المادة مما استعصى فهمه من النظريات او التطبيقات ، انطلق الجميع يسال بينما اجابات الدكتور لا تزيد عن راجع الفصل الرابع او اعد التأكد من معلوماتك عن منحنيات كذا ، لسان حاله ذكرنى بالنكتة الظريفة عن المخرج الكبير يوسف شاهين عندما سئل عن ان الناس لاتستطيع فهم افلامه فاجاب ان هذا غير حقيقى وعارى من الصحة وانه شخصيا للتاكد من ذلك دخل السينما كمشاهد فى اخر افلامه واستطاع فهم نصف الفيلم .


وختاما لفصول تلك المادة الغريبة جدا فقد غير الدكتور تكنيك امتحانه فى الترم وحوله من الاختيار والاجابة بصح او خطأ الى الاسئلة المقالية الطويلة جدا واقسم اننى لم اكتب فى حياتى كما كتبت فى تلك الثلاث ساعات فى امتحان الديفايسز وحينما طلب منا ان نسلم اوراق الجابة اكتشفت انى اجبت سؤالين ونصف من ستة اسئلة ، وشعرت انى راسب لا محالة كما شعرت لاول مرة بالم رهيب صداع غير طبيعى نظرا لانى لم انم لمدة حوالى 72 ساعة وحينما وصلت المنزل القيت بنفسى على سريرى ودمعة تكاد تهرب من عينى لشدة الالم ولانى اول مرة اذاكر مادة بهذه القوة واجاوب بهذا السوء


ولان المثل البلدى دائما لا يخطأ كما كانت تقول جدتى ولان ( اللى تخاف منه ميجيش احسن منه) فقد حصلت فى تلك المادة على جيد جدا مرتفع ( محدش يسالنى ازاى جيد جدا مرتفع دا تصنيف داخلى عندنا علشان نفرق بين الجيد جدا العادى واللى داخل على امتياز اصل القسم عندنا عنصرى جدا فى الحاجات دى ) ، الا انى لم افقه اى شئ فى تلك المادة ابدا بل اتعامل مع اشباه الموصلات على انها صندوق مغلق اعطيه كهربية معينة واحصل منه على نتائج مطلوبة اما ما يحدث بالداخل فلا شان لى به ، مجرد شخابيط على الحيط .