مسكين الغراب فبالرغم من عمله العظيم والذى اتمه بايحاء من الله عز وجل ليعلم بنى الانسان كيف يوارى موتاه التراب فقد جنى بالمقابل لعنة ممتدة مستمرة لا تراجع فيها ولا اعادة نظر ، فاصبحى مرادف للتشاؤم ونذير سوء نسمع صيحته فيتوجس الجميع شر ونراه فيصيبنا غم وارتباك ، وقد يرجع الموغلون فى التشاؤوم خطوات كانوا قد خطوها من قبل فى امر ما
يا له من ضحية فلا ذنب له فيما الت اليه سمعته مع انه هدى الانسان الى عمل يحفظ انسانيته ويستر موتاه ، هكذا كان مصير سعيد الغراب فقد كرهه اهل قريته ليس لشئ الا لانه ينتمى الى عائلة الغراب ، والتى كما قيل علمت الفرية كلها درس لن تنساه وقدمت لها جميل حفظ ماء وجهها ، لكن بدل من حفظ الجميل نست القرية فضل المعلم بل وصبت لعنتها عليه وعلى نسله من بعده جيل بعد جيل ، وتجلت كل تلك اللعنة فى سعيد الغراب الذى دفعته ظروفه وحبه لمهنة جده - التى يحاول بقية العائلة الفرار منها وكأنها طاعون يزيد لوثه وهياج تلك اللعنة عليهم - الى ممارسة تلك المهنة ، المهنة التى يحتاج اليها كثيرون وتنكر الى ممتهنها الجميع
فسعيد هو مسئول عن بعث الحياة من جديد فى ابدان الرجال التى ماتت فيها الحياة فاصبحوا يبحثون عن حل ينقذ روح مات جسدها فأختنقت داخله عاجزة منكسرة ، وعلى قدر الاحتياج الى مهنة سعيد كان النفور من سعيد وتجاهله بل وزمه ولعنه فى كثير من المجالس فسيرته تجلب العجز والعياذ بالله ، فمجرد الحديث معه فى مكان عام كان يوصم صاحبه بالعجز بل يزيد طمع الطامعين اصلا ، وبما ان ما يحدث خلف الابواب لا علاقة له بما يحدث فى شوارع القرية وعلى ملاءها فقد كانت زوج سعيد بهية الدلالة هى الرسول من المحتاج الى خدمات سعيد والذى اوكل زوجة متضررة لا حول لها ولا امل الا فى وصفة سعيد بعلمه او بدون علمه ولكن برضاه اوكلها ان تستعين ببهية ، فدخول بهية اى دار لا غرو فيه ومقابلتها صدفة فى الطريق والحديث معها لا يوصم صاحبته بأى شئ ، والغريب ان الجميع كان يعرف ان كثيرات هن من كان لسن فى حاجة الى بهية نفسها او دلالتها بل كانت بهية مجرد رسول يكتم السر فى صدره فيبوح به لسعيد ويحمل منه الوصفة الشافية المحفزة الناجزة بإذن الله فيسلمها الى طالبتها بلا اى حديث الا الدعاء بتحقيق المراد وحمل المقابل التى تحدده بهية سواء كان مالى او عينى ، يعنى بمختصر الكلام تعرف الداء وتحمل الدواء وتجنى مقابل الشفاء الذى سيكون بإذن الشافى العافى ، ويكتمل الامر بتمادى الرجال فى تجاهل زوجة سعيد معتبرين الاهتمام بها هو صك اتهام ولكن منهم من يتأفف ومنهم من ينادى زوجته بمجرد ولوجه الى البيت معتبرا وجود بهية فى حضرته اتهام صريح له ، وقد يلحق البعض ندائه لزوجته بلعن وشخط وعبارت تشاؤم من وجود تلك المرأة فى بيته ، بل ومنهم من هو فبيح اللسان يعلن بصوت عالى يعبر الحائط ليصل الى جار متلصص متطفل انه على استعداد لمعاشرة زوجته فى التو والحال ليثبت ان تلك الزيارة هى مهنية بحتة خاصة ببهية ولا علاقة لسعيد بها ، وتقل حدة ردة الفعل مع تقدم الرجال فى السن فهم يعرفون ان الاخرين يعرفون ، ولا يجرؤ احد على الحديث مع سعيد والمجاهرة بالوقوف معه لوقت اكثر من وقت السلام والترحاب الا من كبر سنه ووهنت عظامه واصبح طلب المعونة من سعيد بالنسبة له لا يوصمه العار بل بالعكس يزيد من فخره انه بلغ من العمر ارزله وما زال به قوة يقذب بها لمن هى لها حق عليه
وظل الحال على ما هو عليه حتى اتى اليوم الذى وصلت فيه الى القرية حملة معتمد افندينا الكبير محمد على خاطفة زينة الشباب واقواهم رابطة اياهم فى حبل طويل لكى يعملوا بالسخرة فى شق ترعة المحمودية ، ورحلت الحملة بعد ايام من وصولها تاركة فى كل بيت زوجة جديدة مشتاقة الى لمس زوجها متعتطشة الى حضنه الداقئ ، او فتيات قاربن على الزواج يحلمن بلحظات طالما تمناها خيالهن ، حلمن وتمادين فى احلامهن حتى وصلن الى حالة من الاشتياق التى سمعن عنها كثيرا وهن متلصصات على جلسات الحريم ساعات العصارى ، اضحت القرية منتظرة رجوع رجالها ومرت الايام والليلى وازدات الى شهور وسنين ، وباتت تتنسم اخبارهم فلا تصلها الا اشاعات عن موتى بالالاف يقال عشرين الف ماتو فى حفر ترعة المحمودية لكن فى نهاية الامر حفرت الترعة ولم يرجع احد ، بل ارسلت الحكومة تعويضا بدلا من الشباب ، واصبح سترة نساء وبنات القرية واجبة قبل ان تكون متعة والعياذ بالله وخصوصا بعد ان هربت سنية وهى زوجة صغيرة لا تتعدى الثمانية عشر عاما هربت مع عبده بائع القماش بعد ان رأتهما اخت زوجها فى الحقل البحرى والتى بدورها فقدت زوجها لكنها حافظت على نفسها كما انطلقت تحكى فى كل بيت ويقال ان سنية هربت وحيدة بعد ان كادت لها اخت زوجها لكى تخلص منها ، لذا قرر الحكماء تزويج كل الارامل ومن هن فى سن الزواج لرجال القرية كيفما اتفق وبلا اى مقابل فهم لا يبغون الا ستر الولايا بدل ان تنصب عليهم لعنة من الله ، وبات سعيد رجل مرغوب فيه بلا مواربة لا خجل وقلت حركة زوجته فى القرية فتأكد الناس انها كانت مجرد مرسال لا اكثر ، فحينما يكون الهم طائل للجميع فلا عار فى المجاهرة بالوقوف مع سعيد وحثه على المساعدة والعمل وقدح زنات فكره بل الخطأ فى التكبر وركوب الدماغ وعدم التفهم لمستجدات الامور
اصبح سعيد اهم من العمدة وخصوصا مع تنافس الزوجات القديمات والجديدات على نيل رضا ازواجهن ، بات هو الاهم حتى اهم من العمدة ذاته فكيف لا والعمدة نفسه له لاجئا وبه مستعينا بعد الله عز وجل ، يقابله بعد كل صلاة فجر اما مادحا لوصفة ما او لاعنا لاخرى ، مرة مستحسن عمل سعيد ومرة اخرى لاعنا له مهدد ايه بالطرد من البر كله وهو التهيد الذى يقابله سعيد بضحكة واعدا العمدة باصلاح الحال ان شاء الله
فى حقيقة الامر لا احد يعلم كيف انتهى الموضوع او اذا كان انتهى فعلا ام هى حلقة تدور ، لكن سعيد جمع ثروة كبيرة واشترى طين ، تغير حاله وتزوج من الثانية والثالثة فكيف لا وهو الاولى من الجميع بالزواج فالمال والصحة بحمد الله متوفرتان ، مات سعيد فجأة قيل انه اعد منزول من جوزة الطيب والحشيش ودسه خلسه فى صينية الارز المعمر التى تحضرها زوجتة الثالثة بتعة فكتمت الوجبة على نفسه وخرج السر الالهى فى صمت اثناء قيلولته استعداد لليلة ليلاء ، باتت القرية ساكنة مستكينة لارداة الله وتحسر الرجال على فقد من كان فى عونهم ونظراتهم موجهة الى اولاده لعل واحد فيهم قد ورث الصنعة عن ابيه واتقنها استعداد ليوم ياتى فجأة وبلا نذير ، لكن كما هو دأبهم تلك الحسرة وهذا الامل كانا بلا اى اشارة واضحة صريحة بل يكاد البعض يبالغ ان القرية تخلصت من هم فقد وصلت سمعة سعيد الى قرى مجاورة واصبحت القرية تكنى بقرية سعيد ومن جاور السعيد يسعد ، العمدة نفسه اكد ان قضاء الله سبق قضاءه فقد كان عقد المشيئة على طرد سعيد فلا نوم ولا راحة فى قرية يسكن بها من هم على شاكلة سعيد ، واجمع الجميع على ان الله اراحهم من هم عظيم وكان القدر بهم رحيم فلا يعرفون ماذا كانت ردة فعلهم لازدياد شعبية سعيد ودخول الاغراب من القرى الاخرى القرية طلبا الى ما يدعى قدرته عليه
مرت اسابيع وشهور وذات صباح خرجت بهية زوجة سعيد مع زوجة ابنها راغب وردة للدلالة مقسمتان العمل بينهما فوردة تدلل داخل القرية وبهية وهى الاكبر والاعجز والكثر خبرة تصل القرى المجاورة ، تخرجان كل صباح للعمل وترجعان بطلبات لاستبدال سمن وبيض وما الى ذلك يتحملان ايضا الى راغب ما كنت تحمله بهية الى سعيد وترجان بما كانت ترجع به بهية ، ومشى الحال وانتشر الخبر فى القرية كما كان من قبل وصبت اللعنات كما صبت من قبل الم اقل لكم انها دائرة مغلقة ، لكن متى ياتى معتمد افندينا الحقيقة انه لم ياتى بل اتى رجال السخرة لاخذ الشباب لحفر القنال ، قنال السويس وعرف من هم وصلوا الى سن رزيل ان راغب سيضحى الاهم وان وردة ستبطل شغل الدلالة وان راغب نفسه سيزيد من طينه لكنه قد لايموت بمنزول جوزة الطبيب والحشيش لعله تعلم من ابيه درسا ، والحقيقة لقد فعل فمات وهو على سريره مع زوجته الرابعة ، لكن المختلف ان المصيبة فى حفر القنال كانت اكبر فظهر اكثر من راغب غراب اولاد اعمامه نافسوه فكان موته ليس ذو اهمية مثل موت ابيه صحيح هو كان اكثرهم ثقة وشهره لكن الاخرين برضه غربان والعائلة شاربة الصنعة جيل بعد جيل ما كلهم ولاد جنية هكذا علق العمدة ابن العمدة السابق وهو فى طريقه الى صلاة الفجر