السبت، 15 مارس 2008

عم سعيد


عم سعيد سعد الغلبان اشك ان احدكم لا يعرفه وان كنتم لاول وهله لن تتذكروه - ركزوا قليلا رجل كبير بوجه اسمر وشعر ابيض ناعم ، لمن لا يتذكره هو استقر ببدروم العمارة التى يقطنها العبد لله، بالرغم من معاشرتنا له ايام وسنين لا احد يعرف من اين اتى ولا كيف نشأ ، ولكنه يصر انه من عائلة كبيرة ( ليس حسبا ولا نسبا) انما عددا وهى تنتشر فى مصر من صعيدها الى فرعى دلتا نيلها، بل يؤكد فى لحظات صفاءه القليلة ان عائلة الغلبان هى من سلالة فرعونية اصيلة شاركوا فى طرد الهكسوس وصد الحملات الصليبية بل وشاركوا فى حفر القناة وبناء السد وعبور بارليف ، ويندهش عم سعيد من عدم معرفة بعض سكان العمارة به او بعائلته ويتمتم (معلش مهم ميش عايشين فى مصر ) .

دائما ما تروادنى كلمات عم سعيد وانا بين الناس، ملامح كثير منهم تشبه عم سعيد حتى انى صدقته نعم عائلة عم سعيد كبيرة منتشرة ومما زاد من ايمانى به ان ملامح عم سعيد نفسه تتقارب مع ملامحى حتى انى اجزم ان احد فروعى بنتمى الى عائلة الغلبان وبالتالى انا انتمى اليها ، وهو ما ردده العم سعيد ( انت يبنى غلبان مأصل دور بس حتلاقيها جاية من جدود الجدود )


وعم سعيد لم يحكى تاريخه ابدا لاحد بل يكتفى دائما بقوله الحمد لله ، يرفض دائما اى مساعدة من السكان ويؤكد ان اليد البطالة نجسة سبحان الله يا عم سعيد اوجد لنفسه فرص من لاشئ اصبح يبتاع الخبز لسكان العمارة ومتطلبات كل شقة من الخضر وما الى ذلك، بل يدفع فواتير الماء والكهرباء والان وصل الى التليفونات ولعلى مرة اجده يدفع فواتير المحمول.


وبرغم من انى لا اقابل عم سعيد كثير فهناك صلة خفية تجمعنى به وقد تجمع كثير منكم ، انا ارتاح الى بساطته وجهه الذى يحمل اثار الزمان اشعر بانه يحمل سبعة الاف سنة على كتفيه يمشى بهم مزهوا حتى وان كان الطريق وعر وملئ بالحفر، او حتى من كانوا حوله بدلا من ان يساعدوه اصبحوا يعيقونه

دائما ما اصحوا مبكرا حتى ايام اجازتى وهذا ما يمثل عبئا على لان يوم الاجازة يكون بذلك طويل لابد من تجهيز برنامج دسم حتى استمتع به وفى هذا اليوم قررت ان انزل مبكرا جدا لاتمشى قبل ان يهاجم عادم السيارات الهواء النقى ويحل محله استعدادا للانقضاض على رئتى فيصيبنى باختناق لم اتعود عليه


لحسن حظى قابلنى العم سعيد على باب البناية بابتسامته قائلا (صباح الخير يا هندسة) وجدتها فرصة جيدة لاكتشاف المزيد عن عم سعيد فسالته الى اين يا راجل يا عجوز فضحك ضحكة طويلة قائلا (انا شباب عنكوا يا ولاد امبارح الى الفرن) ، لم اشعر الا وانا اقول له خذنى معك ، لم يكذب العم سعيد الخبر وامسكنى من يدى صائحا (طيب يالا بينا) ، لمسة يد عم سعيد اشعرتنى انى طفل اسير مع ابى ، سالته احيكى لى يا عم سعيد عنك من اين انت ؟ وكيف وصلت الينا؟، نظر الى ثم تحول الى الطريق وهو يومئ براسه (ماشى بس بشرط ) شعرت انى صحفى يطارد رجل سياسة او فنان ليسرد مذكرات حياته ، ومما زاد من هذا الشعور كبرياء عم سعيد واحساسه ان حكايته مع الزمن كلها اسرار وكنوز سيطاردها الناس ، انتبهت على صيحته (ها قلت ايه) ردد موافق قل الشرط ، يرد عم سعيد (تفطر معايا واحنا راجعين من الفرن) ، ضحكت جدا وانا اردد الكلمات الواجبة فى هذا الموقف (غالى والطلب رخيص) يا عم سعيد .


(ميهمش اتولد فين فكل ارض مصر طيبة وولادة تنجب الشباب الجدعان اللى يحموها ويكبروها ، لكن اللى يهم انى اتولدت ايام الملك كانت ايام كلها خير وكنا والله صغييرين لكن بنحبه ) هكذا بدا العم سعيد حكايته ومع بدايته وولعى المعروف بالحكايات احسست انى انفصل عن العالم وادخل عالم العم سعيد .

(كنا ولاد كتير فى البيت انا واخواتى وكنا صحاب ارض والله لكن دنيا ، اتعلمت فى الكتاب ومنه للمدرسة وكنت باشتغل فى الارض كان الخير كتير اوى ميش زى دلوقتى البركة ميش حلة لا فى اكل ولا فى شرب صحيح كانت الفلوس قليلة لكن حنحتاجها فى ايه طلما كل حاجة موجودة الا فى الولد بس ولا فى الاعياد) نصل الى فرن الخبز المنظر لا يصدقه عقل بالنسبة لى زحام شديد جدا انظر الى عم سعيد مشفقا انت كل يوم تحارب لكى تحصل على الخبز ، ضحك العم سعد ضحكة خبير قائلا (دا فرن فاضى علشان مبيعملش العيش المدعوم دا نص مدعوم ، اومال لو رحت با هندسة الفرن بتاع المدعوم ، هناك الناس بتروح مسلحة) اضحك من مبالغة عم سعيد فيعقبها بحلفان (اه والله مسلحة بالجنازير والنبابيت وشركات تربية الدواجن والمواشى بتبعت بلطجية يشتروه اصله ارخص من العلف شفت الزمن اللى اكلنا فيه بقت تاكله البهايم ولا مؤخذة ) يرجع العم سعيد الى حكايته( كان العيش الفلاحى اللى بتعمله امى الرغيف يلكمك لتانى يوم ابيض وحلو وطعمه مسكر وياسلام بقى لما تاخده سخن وتحط عليه شوية سمن وعسل، السمن البلدى ميش الكيماوى بتاعكم دا ) يندس عم سعيد فى طابور طويل واقف جانبه ( ميش عارف الدنيا تغير حالها ليه لو كان حد زمان يقولنا العيش حيبقى بالطابور كنا نقولوا دى القيامة تقوم اسهل، خلصت الابتدائة القديمة من هنا والثورة قامت من هنا الناس كانت بتحلم ان مصر تتغير الاحسن على يد العساكر الشباب دول وصورهم بقت فى كل بيت وبصراحة جالى الخير معاهم واتعينت موظف فى البلدية كنت بطلع بالعجلة يوميا لحد المركز وارجع اخر النهار اكمل شغل فى الارض ، اه محنا كنا لازم نشتغل علشان نبنى ، اخويا اول شهيد فى العليه فى 56 مع ذلك محزناش كانت فرحتنا بالتاميم اكبر من حزننا على اخونا مهو اه جد جدى مات برضه فدا القناة وهو بيحفرها يعنى القناة دى مخلوطة بدم عيلة الغلبن ) انظر اليه باعجاب يكمل حديثه ( علشان تعرف اننا عيلة كبيرة ميش عيلة اى كلام بس اللى يعرف، بعد الحرب بدانا نبنى ) انظر اليه قائلا انت شاركت فى بناء السد ( يكمل حديثه منا جايلك فى الكلام اهو اخويا برضه طلع يبنى فيه وانى كنت بكبر بناء بيتنا وببنى برضه جسر يوفرلى الماء مهو لازم نفكر حلو ، بس بدانا نحس ان كلام كتير احلام صحيح الواحد لازم يحلم جامد ويحقق اقل بشوية ، بس احنا حسينا ان اللى بيتحقق كل يوم اقل من اللى قبله ) الطابور ممل جدا يسير ببطئ شديد الساعة تقترب من التاسعة وعم سعيد لا يبدوا على وجهه اى تزمر


(السد خلص وتاممت الشركات واجت النكسة كانت نكسة فى كل دار ابنى البكرى راح فى الحرب لكن حزنى مكنش عليه يا باش مهندس منت عارف حد بيحزن على شهيد لكن حزنى كان على حلم مات ياجدعان دحنا ماحربناش والله ابنى الله يرحمه لو كان حارب مكنش خلاهم ينجسوا ارضنا منت عارف يا هندسة عيلة الغلبان صحيح ناس طيبيبن بس ويلك منهم لو غضبوا ) مازال الطابور يعاندنى وحبات العرق تنساب على ظهرى يا لها من رحلة ( الكسرة كسرتنا كلنا مبقش ليا نفس اروح البلدية حتى لما بروح ببص على صورة الريس بلاقيه زعلان اه والله زعلان منتش مصدقنى، ليالى طويلة الاكل كان ملوش طعم والضحكة موهبتش ناحية الدار مستنين تار ابنى مهو اخوه التانى والتالت دخلو الجيش سوا انى بايدى دى اللى اخدتهم على المنطقة ،منا مخلف اربع رجالة وتلاتة بنات ، الواد التالت استشهد فى الاستنزاف بس خليت الولية تزرغد اصله عقبال عندك من اللى دمروا ايلات الله يرحمه ، من يومها وانا بقول التار قرب وبقول للواد التانى اخوك الكبير استشهد واللى اصغر منه برضه الدور عليك بس تنتصر ) ارى دمعة فى اعين عم سعيد اربت على كتفه كم انت عظيم يا عم سعيد ( مهو يا باش مهندس الدم غالى لكن الارض اغلى ، وفى يوم عشرة رمضان وانا راجع من المركز بالعجلة وداخل على البلد لاقيت زغاريد بزيادة شوية قلت ايه العمدة اجوز تالت ولا ايه ولا المرادى جوز بنته العانس ، بس الفرح كبير والناس بتقول يا رب النصر قلت فى عقل بالى منكنش عملناها يا ولاد اى والله عملناها محستش بنفسى الا وانا ناطت من على العجلة ورحت رامى نفسى فى المشروع بدال مروح لحد الجسر واعديه وارجع تانى علشان اوصل للوحدة الزراعية اللى فيها الراديو ووصلت وانا مبلول كدة لقيت كل اهل القرية اللى بيرقص واللى بيقول لحسان يكونش دا احمد سمير جديد منش مصدق والله قلبى بيقولى المرادى لا انى واثق من اننا حننتصر اسجد وانا بقول يارب النصر مروحناش يومتها الا لما البى بى سى جابت خبرهم اى والله عبرنا بارليف الناس بترقص ، حتى العمدة البخيل جرى زى المجنون وطلع عجلين ودبحهم البلد كلها كانت فرحانه اول مرة الناس تمد اديها وتقولى البقية فى حياتك وانا واقف وراسى لفوق وبتلقى العزى ، ) لما اعد اشعر بالطابور الذى يسير ببطئ لا يتناسب وانفعلاتى مع حكاية عم سعيد الغلبان ( يوم العيد الصغير رجع ابنى متصاب لكن بطل اى والله يا هندسة بطل البلد كلتها احتفلت بيه مع اصحابه صحيح ساب ذراعه فى سينا ذكرى ليوم النصر بس انا وانا بخده بالحضن حسيت ان دراعه الباقى دا اجمد الف مرة من الف دراع ، خلصت الحرب بحلوها ومرها ويا حلاوة يا هندسة لما تدوء الحلاوة بعد المر وعدوك يدوء المر بعد الحلاوة ) ياه يا عم سعيد لخصت سنين الحرب فى جملة واحدة حلاوة بعد مر ( متعرفش حصل ايه بعدها البطل اعد فى البيت وسعينا نشغله فى البلدية لحد لما حفيت لكن فى الاخر الزعيم الله يرحمه وافق على الطلب وصرفله كمان حافز مستديم ، اما الواد الصغير مكنش زى بقية اخواته كان خرع دلوع كل همه الفلوس ، عايز يجرى وراها حتى لو فى اخر الدنيا شوية يقولى نبيع الارض ونفتح بقاله وشوية يقولى نجرفها كل سنتين ونبنى بالفلوس بيت طوب احمر ، زهقت منه ومن افعاله بس نعمل ايه مهو ضنايا ، اقله بص ياوله على اخوك البطل ولا الشهداء اخواتك يقولى مهو البطل اهو الكل نسيه وبياكل ويشرب بالعافية ، احنا يابا فى عصر غير العصر، عصر اللى معاه يعمل واللى معوش ميلزموش ، وكل عصر وله ادان يابا ، وفى يوم جالى وقالى افرح يابا حجوز بنت العمدة وحقب لفوق ، انتفضت يا هندسة بنت العمدة دى اد امك يا وله غير كدة لسانها زفر، دى ستات البلد يا وله مبتكلمهاش الا للشديد الاوى ، وبعدين حتصرف عليها منين وحتجبها تعيش هنا معنا ، رد عليا ابن الكلب وهو بيقول لا يابا انا اللى حعيش معاها هناك دى دارهم واسعة وهو كاتبها باسمها دا غير الفلوس والارض والعربية البيجو يابا ، اتفوه عليك ملعون واطى تعيش على قفا حرمه يا واطى انت ميش ابنى ولا اعرفك وعيلة الغلبان كلها متعرفش واطى زيك ورحت طارده ياهندسة ) ندخل مرحلة جديدة من الطابور وهى مرحلة المظلة التى رحمتنا من اشعة الشمس المباشرة الساعة تقترب من الحادية عشر ( بعدها الاحوال ساءت وبعت حتة الارض لجل ما استر البنات وطلعت من بلدنا اول مرة علشان المركز بعد شغلانة البلدية بقيت اشتغل جانينى لجناين البيوت الكبيرة اه مهو زى ما قال الواطى الزمن دا ليه قطط وحيتان ، صحيح عيب نمشى فى ضلهم بس ميش عيب نشتغل عندهم شغلة حلال ، وفى يوم مشئوم شوية عيال قتلوا الزعيم ، حد يقول الكلام دا برضه الراجل اللى كسبنا الحرب نردله الجميل كدة ، بعدها مرت الايام زى بعضها كل حبة الاسعار تغلى والناس ترخص ، طلعونى معاش بقبض 80 جنيه، الولية ماتت والبطل مع الوقت بقى زى اخوه ، بقى يشتغل معاه معذور مهو الزمن بقى اقوى منو اما الواطى فربنا فتحها عليه وبقى عنده فرن اى والله فرن فى بلدنا ونادى فديو الشباب يسهروا فيه للصبح ومراته ماتت بعد ما اجوز عليها مرة واتنين ، وانى لاقيت البلد مبقاش ليا فيها عيش خرجت القط رزقى لحد ام جيت عندكوا هنا ) وصلنا اخيرا الى الشباك يرص عم سعيد العيش وهو يتعجب( دا عيش دا والرغيف ب خمستاشر ، لو كانت امى شافته كانت ماتت من الحسرة) نتجه مباشرة من الفرن الى شارعنا ، فجأة يقف عم سعيد ينظر الى مبتسما مشيحا بيده ( من هنا انت ناسى الفطار يا هندسة ) نتجه الى نصبه فول مكونة من عربة وعدة طاولات وكراسى صغيرة نجلس بينما يهدد عم سعيد صاحب العربة بالويل والثبور وكبير الامور اذا لم يعد طبق الفول بالبيض باحسن ما يكون ويحضر الطعمية الساخنة ( مهو اليوم الباش مهندس مشرفكم ) أكل مع عم سعيد بنفس مفتوحة فقلما تاكل مع رجل يبلغ من العمر سبعة الاف عام ، وكانت اخر عبارة قالها عم سعيد قبل ان نفترق ( سلام يا هندسة علشان لما اقلك عيلة الغلبان دى اكبر عيلة فى مصر تصدقنى ) صحيح يا عم سعيد كلامك كله صحيح عائلة الغلبان عائلة كبيرة نتشرف انا وانت بل كل من يقرأ الان ان ينتمى اليها .

ليست هناك تعليقات: