الجمعة، 17 ديسمبر 2010

فولتارين



كل شئ صامت ، الا الالم هو وحده من يتكلم ، لغة صعبة التعبير سريعة الفهم ، يتشاركها كل البشر ، لماذا الفولتارين ، لانه قوى يخرس هذه اللغة عالية الصوت ، لكنه للاسف مجرد مسكن يقلل الالم ولا يزيل سببه

السكون يسود الصيدلية كما يسود كل انحاء القرية القابعة على اطراف المحافظة القبلية فبرد طوبة يجبر الجميع على الكمون والاستدفاء الا المضطرين لقضاء حاجة، وبالرغم من تلك الموجة القارصة من البرد فقد ظلت صيدلية القرية فاتحة لابوابها بينما الدكتورة تحاول جاهدة الاحتفاظ بقليل من حرارة كوب الشاى الممسكة به بكلتا يديها ، وكلما خطت عقارب الساعة خطوة نحو الحادية عشر كلما تاكدت من انتهاء اليوم دون دخول زبون واحد ، وبين تأرجح رغبتها بين عدم اعتلال اى من ابناء قريتها بدرجة تجبره على النزول فى هذا الجو وبين تطلعها الى القيام بعملها جلست ناظرة الى الساعة

خطواتها المسرعة تسابق حبات المطر يدفعها الم جنبها المزمن المتكرر ، ذلك الضيف الثقيل الذى ياتى فى صورة نوبات مؤلمة جدا ولا يخففها الا الحقنة (بتاعة الوجع) ، تمنت لو سكنت تماما فكل حركة من عضلات جسمها تزيد الالم ، لكن الصيدلية بعيدة والمطر لا ينقطع والبرد اكثر تاثيرا فهو يخترق لحمها وبهاجم عظمها ، تذكرت اول مرة هاجمتها الام الحصوات وكاد الالم يفتك بجسدها الصغير وبعد شرب الينسون والنعناع وكمية من منقوع الشعير سالت زينب والدتها لماذا نتالم لماذا نتوجع ونعانى ، ابتسمت امها واحتضنتها هامسة (لان ربنا عايز كدة دايما نحمده) ، لم تقتنع ابدا زينب بكلام امها فلماذا يعاقبنا الله بالام مع اننا نسترضيه ونؤدى ما علينا ، اسرعت خطواتها فالصيدلية على بعد خطوات ، طرقت بيدها طرقات رقيقة لا تتناسب ولهفتها على فتح الباب والدخول اليها .

تنتبه الدكتورة على دقات الساعة العاشرة ، تتحرك ذهابا وايابا ما بين باب الصيدلية ومكتبها وهى ترشف قليلا من كوب الشاى ، عام دراسى واحد وتنتهى من دراستها ، وتصبح اخيرا صيدلانية كما حلمت وهى صغيرة تستطيع مساعدة الجميع على الشفاء وتحضير الادوية والمركبات تستطيع بعلمها ان تساعد اهل قريتها ، تضع كوب الشاى على المكتب تفتح اجندتها الخاصة بالمرضى المترددين ، لكل مريض صفحة بها ملاحظات على تطور حالته من خلال الادوية ، صوت الرعد ينفض جسدها يعقب الانتفاضة رعشة تحول حالتها من التفاؤل الى التشاؤم فالفقر شئ بشع يبسط اذرعة على معظم بيوت القرية ، والعلاج رفاهية لا يمارسها الكثيرون بل من الممكن ان لا تفكر بها او تعرفها معظم بيوت القرية ، تنتبه الدكتورة على صوت طرقات تتجه ببطء يتناسب مع جو التشاؤم المتولد عن صوت الرعد.

اهلا زينب كيف حالك صديقتى العزيزة ترد زينب بصوت واهن (كويسة الحمد لله بس جنبى بيوجعنى جدا )، اكيد انا عارفة ثوانى احضر الحقنة ، اجلسى تقولها وهى تنطلق لالتقاط حقنة مسكن قوية وبيد مدربة تدفع المسكن ليسرى فى جسد زينب ، توتر زينب يقل مع شعورها ان هناك الان من يحارب الام جنبها ، تنظر زينب مبتسمة بضعف وهى تقول كيف حالك يا دكتورة وكيف احوال المذاكرة ترد الدكتورة وهى تحضر علبة دواء وتضها على المكتب انا الحمد الله تمام، لكن انت يا زينب التى دائما ما تتعبينى بعدم اتباعك التعليمات ، اؤكد انك لم تتناولى دواءك منذ فترة تشيح زينب جدتى تحتاجه اكثر منى تنظر الدكتورة باستنكار هذا الدواء لا يفيدها يا زينب اقسم لكى للمرة العاشرة انه لا يفيدها ترد زينب بنبرة مرتبكة انه يريحها، ترتفع نبرة الدكتورة انه مجرد شعور نفسى فقط لكن جدتك تحتاج الى العلاج الخاص بها فقط ترد زينب وقد بدأ الالم ينحسر ويتركز فقط فى جنبها بعد ان كان مسيطر على جميع اجزاء جسدها (بس انت عارفة يا دكتورة العين بصيرة واليد قصيرة) تخف نبرة صوت الدكتورة وهى تقول نعم اعلم يا زينب لحظة صمت تسرح فيها الدكتورة متذكرة كيف دبرت زينب الجرعات الاولى من علاج جدتها بصعوبة بالغة ، تقطع زينب حالة الصمت (انا حمشى بقى يا دكتورة) تبتسم الدكتورة لزينب انتظرى يا زينب تبقى نصف ساعة واغلق الصيدلية ونمشى سويا، لكن انصحك بتناول الدواء فى مواعيده فنوبات الالم تنذر ان حالة كليتك تزداد سوء مع الوقت ترد زينب ربنا الشافى تتجه الدكتورة الى المكتب وتتناول علبة الدواء تفضلى يا زينب ولا تعطى اية جرعات لجدتك تنظر زينب الى الدواء بحزن اكره ان اراها تتألم تربت الكتورة على كتف زينب وهى تبتسم قائلة اعرف تدمع عين زينب انت تعرفين انها الباقية لى من كل اسرتى، تتجه الدكتورة الى مكتبها ترتدى البالطو ، تخرج مع زينب التى استعادت جزء كبير من عافيتها بعد حقنة المسكن بينما الجو يزداد برودة والشوارع خالية تماما الا من ماء المطر ورياح عاتية تمسك زينب يد الدكتورة مستمدة منها شعور بالامان بالرغم من فارق العمر لصالح زينب الا ان عامل العلم اعطى زينب شعور جارف بالطمأنينة وهى متشبسة بيد الدكتورة ، بينما الدكتورة تفكر فى زينب وكيف ان حياتها تحولت كلها لمحاولة توفير الدواء لجدتها بكل السبل الممكنة وهل اصبحت الحياة رخيصة لهذا الحد حتى يضيعها الانسان فى مجرد المحاولة والمعافرة فى ايجاد دواء هو من المفروض تواجده فى يد كل مريض ، يزداد كرهها للواقع المؤلم تشعر اكثر بالبرد كلما شعرت بابتعاد الحلم بعلاج كل انسان كلما احتاج، احلام ايجاد الدواء لكل داء احلام احلام احلام ، تسحب زينب يدها من يد الدكتورة ووهى تقول تصبحى على خير ، تنطلق زينب سريعا الى منزلها بينما تالدكتورة ما زالت تفكر فى واقعها البعيد عن كل ما حلمت به لا يمكن ان يكون الواقع هو حقنة مسكن بلا علاج لا يمكن ان يكون الواقع مجرد فولتارين ، تنتبه الدكتورة على صرخة مدوية تهزم صوت الرياح بل تهزم كل صوت داخل الدكتورة صرخة تنهى قصة اخرى من قصص الالم

ليست هناك تعليقات: